بداية اللغة العربية وتطورها في الهند

 

 إن اللغة العربية منطوق الحياة والكون، فهي مرآة الثقافة وعنوانها، وهي قنوات الاتصال بين شعوب العالم، تتبادل بها كل أمة أفكارها وثقافتها، فأصبحت معرفة اللغات ضرورة هامة للإنسان ليطلع على ما وصلت إليه الحضارة، وإن اللغة العرببية  لغة عالمية لأول مرة في التاريخ الإنساني، إذ لا إسلام بلا عربية ولا عربية بلا إسلام، وإن الهند حظيت بهذه الحضارة الراقية من بداية القرن الثامن الميلادي مع كون الصلات السابقة ثقافيّا وتجاريا منذ فجر التاريخ، فاحتضنت الهند من العربية أكثرها ومن الحضارة الإسلامية معظمها لمئات من السنين حيث نبتت بذور اللغة العربية في هذه الأراضي الخصبة منذ طلوع شمس الإسلام على أفقها ونمت بالنشاطات الملحوظة في كل من العهود العربي والغزنوي والغوري ودولة المماليك والخليجيين والتغالقة، ثم إنّها أينعت بالثمرات اليانعة في العصر المغولي وعصر الاحتلال الانجليزي إلى العصر الحديث، وكانت اللغة العربية لغة علم وأدب في كل العتبات والدور إذ شهدت نتاجا غزيرا في كل العلوم والفنون الإسلامية من القرآن والحديث والفقة والأصول والكلام والتصوف والنحو والصرف والأدب، وما تخلّفت في العقول العقلية أيضا بل قدمت مؤلفات لامثيلة في العلوم الرياضية والفلكية والمنطق والفلسفة، وخير مثال على هذا كتاب "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنظائر" الذي يحتوي على ترجمة أكثر من أربعة آلاف وخمس مائة شخص من العلماء الهنود.

هناك مثل شعبي في الخليج "فلان روبيته ناقصة" يطلق على الشخص غير العادي ممن لديه خلل معين في التفكير والسلوك، كيف وصل ذكر عملة هندية في الأمثال الشعبية للعرب، وكيف عرف امرئ القيس عن الحب الهندي المعروف "فلفل"، إنه كان هناك علاقة وطيدة بين سكان شبه الجزيرة العربية والهند الكبرى منذ فجر التاريخ، وهي تعود إلى عصر نبي الله سليمان عليه السلام في بعض من الروايات، ففي الجنوب كان العرب يتوافد للبيع والشراء كما كان يتوافد سكان جنوب الهند بالبضائع الهندية مثل التوابل والبخور، إلى أن تعمقت هذه العلاقة في مجالات الثقافة والفكر والأدب في العصر الأموي فحظيت بقدوم عدد من التابعين الوافدين لنشر رسالة الإسلام وتعاليمه حتى أصبحت مدينة "مالابار" أول بيت للإسلام والمسلمين في الهند، أمّا في شرق الهند فما دخل فيه اللسان العربي مع الإسلام إلا في عهد الوليد بن عبد الملك ولو أن هذه الفكرة تولدت بالتحديد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبعث حاكم العراق آنذاك محمد بن قاسم لفتح السند سنة 93هـ، فقدم هذا البطل مع عدد من رجال الفكر والقلم إذ كان هذا الحدث همزة وصل ثانية كبرى بين هذه المنطقة واللغة العربية، واستعدت بذلك لتتصفح أروع صفحاتها المزدهرة بالعلوم والفنون من كلا الناحيتين.

إن ازدهار اللغة العربية بدأ يتولد من قدوم محمد بن قاسم، إنه اصطحب جماعة من العلماء أمثال ربيع بن الصبيح البصري السعدي التابعي، وحباب بن فضالة التابعي وبمناهل علومهم الوافرة تربى جيل جديد من أهالي الهند أمثال الشيخ أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي والشاعر أبي العطا السندي إلى أن قامت الحكومة الغزنوية، فما زال العلماء والصوفيون يهاجرون ديارهم ويستوطنون هذه البقعة الأرضية استقطابا كل قاصية ودانية لكل المحتاجين، إذ حلت اللغة العربية مكانة مرموقة في كل أفئدة وقلوب، وصارت هي مرجعية شرعية لسائر الناس بيد أن اللغة الفارسية كانت لغة رسمية في كل الأزمان، وكان الرحالة المشهور أبو الريحاني أبرز علماء هذه الفترة بالإضافة مع الشيخ محمد إسماعيل ومسعود بن سعد اللاهوري والدقيقي والفردوسي وأحمد بن حسين صاحب السنن، وفي عشرين سنة من الغوريين برع علماء كثر من أبرزهم محمد بن حسن الصغاني صاحب "العباب الزاخر واللباب الفاخر" في عشرين مجلدا، وكذلك نبغ عدد ضخم من العلماء العباقرة في عهد الخليج والتغالقة أمثال الشيخ نظام الدين أولياء وأمير خسرو المعروف بـ"ببغاء الهند" إلى أن تصفحت هذه المنطقة صفحة جديدة نيرة مع المغوليين سنة 1526م.

كان العهد المغولي عصر الحضارة المزدهرة الزاهية، اذ امتدت سيطرة المسلمين في هذا الزمن شرقا وغربا فتولدت بيئة ملائمة للنبوغ العلمي الوافر ما أنتج عن ظهور عدد لا يحصى من العلماء والشعراء والكتاب أمثال: الشيخ ركن الدين صاحب "شرح الأربعين" و الشيخ غياث الدين الهروي صاحب "خلاصة الأخبار في أحوال الأخيار" والشيخ محمد عاشق الجرياكوتي صاحب "التفسير المحمدي" و"الجواهر العربية في الفنون الأدبية" و الشيخ محمد بن أحمد النهروالي صاحب كتاب "البرق اليماني في الفتح العثماني" وكذلك ملا محمود الجونفوري صاحب "شمس البازغة في البلاغة" والعلامة ولي الله الدهلوي صاحب "حجة الله البالغة" وحسان الهند غلام علي آزاد البلغرامي "صاحب سبحة المرجان في آثار هندوستان"، والعلامة حميد الدين الفارهي صاحب "جمهرة البلاغة"، هكذا توجد هناك شخصيات بارزة مع انتاجاتهم الغزيرة في اللغة العربية، حيث تقصر عن وصفها الخيال، وصل الأمر ذروته نظرا إلى تفسير "سواطع الإلهام" التفسير الخالي من الحروف المنقوطة لأبي الفيض بن المبارك الناكوري وإلى معجم "تاج العروس في شرح القاموس" للسيد مرتضى بن محمد الزبيدي، وما كانت العناية بالشعر قليل بل القصائد والدواوين العربية المشهورة تشهد لنا اهتمام الهنديين بالنظم مع النثر وكان فيهم القاضي عبد المقتدر الكندي صاحب القصيدة اللامية والشيخ التهانيسري صاحب الدالية والشيخ غلام آزاد البلغرامي صاحب السيارة والشيخ فضل الحق الخير آبادي صاحب القوافي والتجنيس وغيرهم ممن لا يحصى،  كيفما كان الحال إن اللغة العربية قد بلغت إلى هذا الزمن أقصاها في الدرس والتدريس والشرح والتعليق وكذلك في التأليف والتصنيف، فإن كل من يؤلف في تاريخ الأدب لا يسوغ له بأي حال أن يغض الطرف عن كل هذه المجهودات بل كانت الهند أندلس الثاني للمسلمين لازدهارها بالثقافة الإسلامية والإنتاجات الأدبية النادرة

ثم دخل الإنجليز في الهند مستعمرين يحملون معهم لغتهم وثقافتهم، فانتفلتت القوة من المسلمين وانحصروا في المساجد والديار، وبدأت حالة اللغة العربة تتدهور بصفة منذرة من جراء الخطة التعليمية الّتي وضعها المستعمرون لنجاح حركة التنصير ببناء الكنائس والمدارس التبشيرية وبث روح التفرقة بين الهنود اعتمادا على سياسة فرّق تسد، فاجتمع العلماء الهنود وقاموا بتأسيس جامعة دار العلوم سنة 1866م لنشر العلوم الإسلامية والثقافة العربية وآدابها، ولكن الانتاجات الأدبية العربية لم تقف بعد بل زادت وامتلأت المكتبات بالمؤلفات الغزيرة وكان من أبرزهم فيض الحسن السهارنفوري وفضل الحق خيرآبادي والعلامة عبد الحي اللكهنوي وغيرهم ممن يطول بذكرهم المقال، كان تأسيس دار العلوم نقطة تحول في تاريخ اللغة العربية في الهند إذ أدت إلى تأسيس عدد من المدارس الأهلية والحكومية قبل الاستقلال وبعده وفي الجانب الآخر لعبت حركة السيد دورا رياديا في تاريخ المسلمين من الناحية الثقافية والاجتماعية، فظهرت القيادات التعليمية للغة العربية بصفة جديدة تحت قيادة أبي الحسن الندوي والعلامة مسعود عالم الندوي والعلامة عبد العزيز الميمني والعلامة محمد زكريا الكاندهلوي وغيرهم الكثيرون يرجع إليهم الفضل الأكمل والنصيب الأوفر لانتشار اللغة العربية في الهند، ففي أواخر القرن التاسع عشر نشأ تياران للمنهج الدراسي العربي الأول ما يسمّى بالدرس النظامي الّذي اشتهر في كل المعاهد والكليات الأهلية والثاني هو المنهج المتبع في الجامعات الهندية، إذ بدأ المسلمون يواجهون التحديات والعوائق فنشأت مدارس تجمع بين الدراسات الإسلامية والمدنية مثل جامعة ندوة العلماء وهكذا ما زالت اللغة العربية حية في  المعاهد والجامعات وأدى إلى عهد الصحافة والمجلات بوجود شخصية سماحة أبي الحسن علي الندوي الّذي يعتبر الصلة الوثيقة بين الهند والعالم العربي حيث أصدرت أول مجلة "الضياء" تحت رئاسة الشيخ مسعود عالم الندوى وتابعتها المجلات الأخرى بدءا من "البعث الإسلامي" و"الرائد" إلى مجلة "النهضة" والاعتصام" في المواقع الالكتروني.

وفي العصر الحاضر، اتّخذت اللغة العربية مكانة أهم لغات العالم بعد الاستقلال في الهند، فإن نطاق اللغة العربية وآدابها قد توسعت بسبب انتشار المعاهد الاسلامية والجامعات الهندية الّتي تهتم بتدريس اللغة العربية بما فيها الجامعة الملية الإسلامية وجامعة علي كره الإسلامية وجامعة جوهرلال نهرو وجامعة دلهي وما إلى ذلك من جامعات أخرى، ثم إن هذه اللغة قد حظيت بالاهتمام الكبير لتوثيق العلاقات التجارية والاتصالات السياسية والروابط الودية بين الهند والعالم العربي إثر اكتشاف البترول في معظم البلدان العربية وازدياد فرص العمل في الشرق الأوسط بشكل عام.

ثم ما يجب التنوية به بشكل خاص هو ولاية كيرالا، إذ أن دراسة اللغة العربية وآدابها في هذه الولاية تعد أكثر انتشارا من بين الولايات الأخرى، وقد نبغ عدد من العلماء والشعراء والكتاب المهرة في هذه البقعة أمثال القاضي محمد العزيز الكاليكوتي والقاضي عمر علي البلنكوتي والقاضي أبو بكر محي الدين الكاليكوتي وغيرهم من العباقر، فإن هذه المنطقة خدمت هذه اللغة تحت رئاسة السادات البخاريين والأسرة المخدومية المشهورة بالمخدوم الكبير زين الدين بن علي المعبري والشيخ زين الدين مخدوم الصغير، حيث لا تزال تحافظ على تعليم اللغة العربية للأولاد في سنهم المبكر، فإن هذه الولاية تهتمّ بنشر اللغة العربية ليل نهار بتأسيس عدد من المعاهد والكليات في كل نواحي الولاية، وإنها تتشرف بعلاقاتها الراسخة فضلا عن الولايات الأخرى مع الدول العربية بشكل كبير إلى الآن.

هذه هي رحلة اللغة اللغة العربية مع الهند وأهله، فإن أهل الهند لم يترك أية ثلمة فارغة في سبيل منحها الاهتمام البالغ، إذ تعهّد بها المسلمون وقاموا بالانتاجات الغزيرة التي تزخر بها المكتبات العربية وتداولها أيادي العرب أثناء تعلمهم وتعليمهم في كل يوم، فالهند كانت وما تزال تخدم اللغة العربية بكل تقدم بيد أنها تواجه التحديات والعوائق.

المصادر  والمراجع

رضوان علي. (1995م). اللغة العربية وآدابها في شبه القارة الهندية الباكستانية عبر القرون . كراتشي، باكستان.

زبير أحمد الفاروقي. (1990م). مساهمة دار العلوم بديوبند في الأدب العربي. دهلي الجديدة: دار الفاروقي.

سيد أبو الحسن علي الندوي. (2006م). ندوة العلماء بلكهناؤ: المجمع العلمي.

عبد الحكيم. (2019- يوليو). دراسة تحليليّة ونقديّة لكتاب "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" للمؤرخ الهندي العلامة السيد عبد الحي الحسني الندوي. نقيب الهند .

عبد الحي الحسني. (1958م). الثقافة الإسلامية في الهند. دمشق: المجمع العلمي العربي.

محمد إرشاد. (2005). واقع اللغة العربية في الجامعات الهندية. الهند: المجلس الهندي للعلاقات الثقافية.

محمد إسماعيل الندوي. تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية. بيروت: دار الفتح للطباعة والنشر.

محمد صدر الحسن الندوي. (1999م). الإسلام والمسلمون. أورنك آباد، مهاراشترا: معهد الدراسات الإسلامية.

محمد ضياء الدين الفيضي. (2013م فبراير). خدمات علماء كيرالا لنشر اللغة العربية. مجلة المداد ، 45.

محمد واضح راشد الندوي. حركة التعليم الإسلامي في الهند وتطور المنهج.

 

 محمد شاهنشاه ملا 

طالب وباحث في قسم اللغة العربية بجامعة دار الهدى الإسلامية، تشماد

 

 

  

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم