الانهيارات الأرضية في ويناد كارثة تتجاوز العبارات


تربتنا كيرالا ذات جميلة و رائعة، أحد طرفيها بحر مواج، وطرفها الآخر جبال راسخات، ومن مديريتها "ويناد" (Wayanad)، واقعة في شمالها، التي تثير العجب والإعجاب على ناظريها، وهي في ريانة الشباب، بارعة الجمال، فأصبحت مطمح الطامحين، وسبيل الراغبين، حيث تتأسى المديريات الأخرى والمقاطعات بها أعظم التأسي، واقتدى أشد الإقتداء، لتكون شبيهة بها في رائعتها وحسنها، ورونقها وبهاءها، 

ومن مدنيها "تشورل ملى ومندكّي" (chooralmala,mundakkai) اللتان أصبحتا مدار الحادثة والكارثة، والأخبار والأنباء، لأنها شاهدت ما لم تشاهدها تربة كيرالا قبل، وكانتا وفرة في السكان،وقرة في البنيان، وعراقة في التاريخ، كأنهما طليعتا مدن ويناد، والناس يظلون ويبيتون في نواحيهما معتمدين على مناقبهما،متفائلين بحسن طالعهما، وتجارتهم تدر عليهم خيرا وفيرا، وتحبوهم مالا كثيرا، فما زالت المدينة كلفا باقتناس ود الناس، حريصا على استدامة زياراتهم ورحلاتهم.

ففي ذات ضحى فضي السنا، بهي القسمات، كانت المدينة تضحك للربيع الطلق، مختالة بخمائلها النضرة، مزهوة برياضها العطرة، فالناس منتشرون في الأرض ليبتغوا من فضل الله، وبعضهم مجتمعون للندوة حول مكان القهوة، لتتملى مما ينثره جلسائها من نوادر الأخبار، وروائع الاشعار، وبالغ الحكمة، ولا غرابة إذا أخذك العجب واستبدت بك الدهشة بسماع هذه، لأن المطر لم يزعل يحيط بهم منذ ثلاثة ايام متوالية، فأفكارهم تدور حوله، وعجبك سينقضي ودهشتك ستزول حين تسمع ما أخفى عليهم الكون في هذه الليلة الممطرة المظلمة، لأنهم لم يكونوا يعلمون ما خبأت لهم المقادير، وأمسوا لا يعلمون بأنه امتحان قاس تطيش فيه العقول، لأن الأفق قد تلبد بالغيوم الدكن، وهاجت السماء بالصواعيق وماجت.

فجن عليهم الليل،وأرخى الظلام سدوله على الكون، وأسلمت الجنوب إلى المضاجيع، فوقعت انهيارات أرضية ناجمة عن هطول الأمطار، فانقطع رجاؤهم، وسكن جيشهم، فأوجسوا منها خيفة، وعمهم الذعر، وسادهم الإضطراب، واشتد عليهم الأمر، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، أخربت بيوتهم ودمرت ديارهم، فأتى عليهم رغدا من كل مكان وهم لا يشعرون، ووقع عليهم ما لم يكن حسبان أحد، وأمست المدينتان كرحى معركة ضروس، وباتتا كمنجدلين مع بيوتهم وكل ما كان لهم فوق الثرى، كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، العياذ بالله من ذلك، فتّ هذا الموقف في عضدهم، وبدأوا تتداعوا، فسقطوا في أيديهم، وباتوا حيران لا يدري ماذا يفعل، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ونزل بهم الأذى ما يزلزل الصم الصلاب، فرغبوا في اللجوء إلى جوار آخر، والإقامة في ديار أخرى، ولكن كيف؟ لأنه قد لحق بهم الأذى ونزل بهم الضر حيث انكسرت الجسور والطرق، والمدن والقرى، كاجتثاث الأشجار واقتلاعها من أصولها، فبقيت كجزيرة وحيدة فريدة شريدة، بل كأن لم تغن بالأمس، فتململوا تململ السقيم، وبكوا بكاء الثاكل اشفاقا من عذاب الله وخشية من غضبه. 

وكان الصبح بقريب، فهزت أنباء فاجعة في كل مكان هزا عنيفا، وزلزلت لهولها أفئدتهم زلزال شديدا، وهمّ الحزن لسببها كل مدينة، كل قرية، كل بيت، بكيرلا، بل الهند، وما فتئ جرحها الممل ينزف من قلوبهم دما، فحزمت الحكومة أمرها، وأعدت عدتها، ممتلئا بالجنود البرية والبحرية، والجوية كلها، فزحفوا يمتطون صهوات الخيول الصافنات، يتقلدون بأدوات بحث وانتشال الجثث الرقاق المرهقات، يتلظون شوقا الى النصر ويحرقون لهفة على العون، فشيدوا الجسور، وأقاموا القناطير، وسووا الشوارع، ومع ذلك عملوا على استعادة الثقة بانفسهم، واسترداد شعورهم بالعزة والقوة والغلب، وتحقيق الهدف الكبير الذي طمحوا إليه، فشحذوا الهمم، وعمروا القلوب، ورأوا هناك العطاش الموفين إلى الهلاك في جوف الأرض التي صارت كالصحراء، فيمدون أيديهم إليهم ليغترفوا منهم غرفة الحياة.

فكانوا كلهم كبلسم هذا الجرح، واليد الحانية التي أحاطت أرض كيرالا بالعناية والرعاية، والقلب الكبير الذي أفاض عليها الحنان، وأبدى الجيوش من ضروب البطولات مما يجعل سهمهم يعلو، ونجمهم يتألق، وبذل اهل كيرلا أيضا أسخى البذل، وأبلى أكرم البلاء، لأنه قلما يغتمض لهم -بل لكل من له كبد خضر- جفون في الليل، ولم تتوسد أيمنهم، ولم تتجاف جنوبهم، فقاموا لإحسان الحال وإصلاح العيال، فمضوا يبحث آثارها.

ولا غرو إذا ثغر فم احد دهشة حينما يقابل بين ماضي هاتان المدينتان وحاضرهما، فتنبوا عنهما العيون، وتعرض عنهما القلوب، لأنها حادثة تغلب الكلمات، وكارثة تتجاوز العبارات، فيظل طوال حياته أسوان أسفا، ويبكي بكاء يقطع نياط القلوب، وينشج نشيجا يفطر الأفئدة، ولم تزل هذه حزازة في قلوبنا إلى أن نموت، فليس هذا الاخبار رغبة في عطائكم أو رهبة في جفائكم، بل لصالح دعواتكم الخالصة، وقد قتل 400 على الأقل، مطابقا على موقع الحكومة، وغاب 200 على الأقل، وانهدمت 400 من البيوت، وأخرى كثيرا لا تكاد تحصى، وفيهم من صار يتيما استشهد أبوه وهو طفل لم يطر شاربه، ومن بذل منذ نعومة أظفاره إلى بواكير شبابه فيها، وتتلمذ بها، ضاعوا كل ما لهم من لذات حياتهم، وشربوا كأسا من كؤوس الحياة المريرة، فأحاط بهم أهل كيرلا إحاطة الغل بالعنق، خالصين مخلصين، وما قطعوا الفلوات، وما ضربوا أكباد الإبل في البكور والعشيات لنيل الجوائز والروبيات، فاللهم أزل ضرهم، وأنعش حياتهم..... آمين يا رب العالمين

محمد مصطفى النجمي 

إرسال تعليق

أحدث أقدم