وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ

 


كل عام، ومع اقتراب أيام ذي الحجة، يحدث تغيير هادئ في قلوب ملايين المسلمين حول العالم. هذه الأيام المباركة، وعلى وجه الخصوص عيد الأضحى المبارك، تدعونا إلى التوقف والتأمل – ليس فقط في الطقوس، بل في المعاني العميقة للإيمان والكرم والإيثار. وفي قلب كل ذلك، تقف قيمتان خالدتان: الصدقة والتضحية.

عيد الأضحى، أو "عيد التضحية"، ليس مجرد مناسبة تقليدية. بل هو تذكير قوي بإيمان النبي إبراهيم الخالص، عليه السلام، الذي كان مستعدا لأن يضحي بأعز ما يملك – ابنه إسماعيل – طاعة لأمر الله. وعندما همّ بتنفيذ الأمر، تدخّل الله برحمته، واستبدل إسماعيل بكبش عظيم.

هذه القصة ليست مجرد حكاية من الماضي، بل درس خالد يتردد صداه في حياتنا اليوم: التضحية الحقيقية تعني التخلي عن الأنا والرغبات والتعلقات في سبيل شيء أعظم. ليست عملية الذبح هي الجوهر، بل النية التي تقف خلفها – الاستعداد لوضع الله والخير في المقام الأول.

كما يذكرنا القرآن الكريم:
"لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ" (سورة الحج: 37) فعندما يقدم المسلمون الأضحية اليوم، فكأنهم يقولون: "أنا مستعد لأن أتنازل عن شيء أحبه، من أجل من أحب."

الصدقة ليست مجرد تفصيل جانبي في هذه الأيام، بل هي في صميم التجربة. يقسّم لحم الأضحية إلى ثلاثة أجزاء: جزء للعائلة، وجزء للأقارب والأصدقاء، وجزء للفقراء والمحتاجين. هذا الفعل يضمن ألا تكون هناك مائدة فارغة، ولا قلب منسي، ولا أحد يشعر بالإهمال.

لكن الصدقة في ذي الحجة لا تقتصر على توزيع اللحم فقط. فأول عشرة أيام من هذا الشهر تعتبر من أعظم الأيام في السنة من حيث الأجر والفضل. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر." (رواه البخاري)

في هذه الأيام، يكثر المسلمون من الصيام والصلاة وذكر الله والصدقات، بقلوب مفعمة بالإخلاص والعطاء. سواء بمساعدة جار، أو التبرع لمحتاج، أو حتى بابتسامة صادقة، تدعونا هذه الأيام لأن نكون أكثر سخاءً، وأكثر لطفا، وأكثر اتصالا بالآخرين.

في جوهر الأمر، فإن رسالة ذي الحجة وعيد الأضحى بسيطة لكنها عميقة: عش حياة ملؤها الهدف، والرحمة، والثقة بالله. ففي التضحية بشيء نحب، نكتشف القيمة الحقيقية لما هو أثمن. وفي العطاء للآخرين، نغني أرواحنا قبل أن نغنيهم.

وفي عالم يزداد فيه التعب والمعاناة – سواء من الجوع، أو الوحدة، أو الصعوبات – يذكّرنا هذا الوقت المبارك أن الإيمان ليس مجرد طقوس، بل هو أن نكون إلى جانب بعضنا البعض. أن نقدّم من راحتنا ووقتنا وجهدنا من أجل إسعاد الآخرين، ومن أجل أن نكون إنسانا أفضل.

عيد الأضحى وأيام ذي الحجة تمنحنا فرصة لإعادة ترتيب نوايانا، وتليين قلوبنا، وإعادة الاتصال بما يجعلنا بشرا بحق. في قصة إبراهيم، نرى الشجاعة والثقة. وفي الأضحية، نجد التواضع. وفي الصدقة، نكتشف الفرح – ليس فقط لمن يأخذ، بل لمن يعطي أيضا.
نسأل الله أن يلهمنا في هذه الأيام المباركة لأن نعطي أكثر، ونحب بعمق، ونعيش بخير ورضا.






محمد سفيان سليم

طالب مجمع دار الفلاح الإسلام

إرسال تعليق

أحدث أقدم