محمد ﷺ هو الرسول الذي وصفه الوحي الإلهي بأنه القدوة المثلى للمؤمنين، حيث قال الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". وقد بدأ النبي ﷺ بتلقي الوحي في سن الأربعين، ومع دعوته التدريجية بدأت رسالة الإسلام تنتشر، فازداد حقد الأعداء وحسدهم، وبدأت تتوالى أشكال الاعتداء والاضطهاد على المسلمين. ومع تصاعد الأذى، لم يعد بإمكان المسلمين تحمّل القمع، فاضطروا للهجرة في مرات متعددة إلى أماكن مختلفة، وكان آخرها إلى المدينة المنورة
حين أصبحت حياة المسلمين لا تطاق بفعل العنف، سعوا إلى النجاة بالهجرة، فهاجروا أولا إلى الحبشة على مرحلتين، ثم إلى الطائف على أمل أن يستقبلوا هناك، إلا أنهم قوبلوا بالرجم بالحجارة. وفي نهاية المطاف، ومن أجل حفظ الإسلام وضمان بقاء المسلمين، تقرر الهجرة إلى المدينة المنورة في العام 622م. ومن خلال دعوة النبي ﷺ للغرباء وتعريفهم بالإسلام، أسلموا وبايعوه، مما ساهم في تأمين قاعدة صلبة لبقاء المسلمين في المدينة. لقد استعد عدد كبير من الصحابة للهجرة بعد أن تركوا خلفهم أموالهم وأهليهم في مكة. كما واجه النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر رضي الله عنهما مشاق كبيرة أثناء الهجرة، ومرّا بظروف صعبة في الطريق، لا سيما عند لجوئهما إلى غار ثور. وعندما وصل النبي ﷺ إلى المدينة، كان أول من رآه رجل يهودي، فهتف بأعلى صوته مبشرا بقدومه، فخرج الناس يستقبلونه بفرح وبهجة، وغنّى الأطفال "طلع البدر علينا". وكان النبي ﷺ قد سبق وأن أرسل عددا من الصحابة إلى المدينة لتعزيز الوعي الديني هناك، مما مهّد الأرضية لاستقبال النبي ﷺ وأصحابه. وقد لعب اهتمام الأنصار بالإسلام دورا كبيرا في هذا الاستعداد. وأسلمت قبيلتا الأوس والخزرج من خلال حجاج جائوا إلى مكة، وبهذا بدأ الحجيج في الأعوام التالية يقصدون النبي ﷺ للبيعة، مما رسّخ الوجود الإسلامي في المدينة.
وبعد استقراره في المدينة، كان أول ما فعله النبي ﷺ هو تأسيس دولة قائمة على مبادئ الإسلام. ركّز النبي ﷺ في تأسيس الدولة على ثلاثة أمور أساسية. أولاها بناء المسجد في الموضع الذي برك فيه جمله، وكان ذلك المكان ملكا لطفلين يتيمين، فاشتراه منهما بعشرة دنانير، وهما تحت رعاية أسعد بن زرارة، أحد الصحابة الأوائل. بني المسجد في نفس المكان الذي كان أسعد يصلي فيه، وقد شارك النبي ﷺ بنفسه في البناء، ناقلا الحجارة، مما يعكس التواضع والقيادة بالمثال. ثم قام النبي ﷺ بإرساء مبدأ الأخوة بين المهاجرين والأنصار. فقد تقاسم الأنصار أموالهم ومساكنهم مع المهاجرين الذين تركوا كل شيء في مكة، بل إن من كان له زوجتان من الأنصار عرض إحداهما على أخيه المهاجر. كانت هذه صورا نادرة من الإيثار والإيمان الصادق، وأصبحت نموذجا فريدا في التاريخ الإسلامي. وقد مثّلت هذه المؤاخاة الأساس الاجتماعي الضروري لقيام الدولة، فالاتحاد والوحدة شرطان أساسيان لبقاء أي مجتمع، ومن دونهما تتفكك الأمم وتنهار بالحروب.
كما كتب النبي ﷺ وثيقة تُعدّ أول دستور مدني في الإسلام، نظمت فيها العلاقات بين المسلمين والمشركين واليهود والقبائل المختلفة. بيّنت هذه الوثيقة حقوق وواجبات كل فئة، وحددت سلوكيات التعايش، وأكدت أن الغنائم من حق الدولة، وأوجبت أن أي حرب لا تعلن إلا بإذن النبي ﷺ. كما دعت الوثيقة إلى السلم والعدل والتعاون المشترك. وقد عرفت هذه الوثيقة باسم "صحيفة المدينة"، وهي نموذج لحكم راشد قائم على التعددية والعدالة الاجتماعية. وقد دخلت قبائل عديدة في الإسلام بعدما شهدت عدل النبي ﷺ وحكمته وأخلاقه.
إن المجتمعات المعاصرة التي تواجه الشدائد والاضطهاد تستطيع أن تستلهم من هذا النموذج الإسلامي في الهجرة وبناء الدولة سبلا للنجاة، فتنجو وتنهض من جديد بالإيمان، والوحدة، والعمل الجماعي، والقيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام
محمد سفيان سليم
طالب مجمع دار الفلاح الإسلامي.