كان هذا الراحل الجليل ركيزة من ركائز الأمة، واسع الدين، غزير العلم، مشدود الشوق إلى الدار الآخرة، لا تهمّه ذروة الجاه ولا رفعة المكانة داخل المجتمع أو خارجه. كان ملاذًا لمن أثقلتهم أعباء الحياة، ومجلسًا يُؤوى إليه من يحمل الشكاوى والمظالم. ومن أبرز صفاته إدخال السرور على قلوب أثقلتها الشدائد، وتفريج كربات من طالت معاناتهم، رغم ما أوتي من علم واسع ومعرفة غزيرة. ومع ذلك، كان مثالًا في التواضع، وبصمة واضحة في التضرّع، تميل إليه القلوب وتتعلق به الألفة، سواء بالقلب أو العين.أما كلماته الصادرة من فمه النقي، فكان الناس شديدي الولع بسماعها، مترقّبين لها، لما فيها من شفاء لداء لا دواء له، ومواساة لعناء لا هناء له، ومعانٍ تغرس بذور الإيمان والربانية. وكان في كلّ خطوة من خطواته مقتديًا بوالده، أقرب إليه قدوة، وأصدق به طاعة.
حياته ومنهج سيرته البنّاء
وُلد الشيخ مانيور أحمد مولوي في 19 يونيو عام 1949، بمقاطعة بوراتيل من كانور، في أسرة الشيخ الجليل عبد القادر الثاني. كان والداه: و.ك عبد الله مسليار، والسيدة حليمة. وقد ربّاه والده تربية دقيقة، وثقّفه تثقيفًا كاملًا منذ نعومة أظفاره، فأشعل في قلبه حبّ العلم والتعلّم. وشيئًا فشيئًا اشتدّت هذه الشعلة، وانفجرت لهبة المعرفة، حتى غلى العلم في قلبه كبراكين لا تهدأ.لم تكن رحلته العلمية مستقرة في مكان واحد، بل تنقّل بين العديد من المدارس، وتزوّد منها بالعلوم الدينية، ونهل منها الوعي الصحيح والدقيق بالإسلام. من أبرز المدارس التي تلقى فيها العلم: "روضة الإسلام خنّ" الواقعة في بابينيسيري تحت إشراف العلّامة إبراهيم المسليار، ومدرسة "الرحمانية" في مودم برفقة والده المبجّل أحمد مسليار، و"منوّر" في تريكاريبور.
بعد إتمام دراسته لأهمّ الكتب الشرعية، عقد العزم على السفر إلى ديوبند لمتابعة دراسته العليا. رغم أن رغبته الأولى كانت الالتحاق بجامعة النورية في باتيكاد، إلا أنّ أستاذه الشريف أحمد مسليار، وهو من خريجي ديوبند، نصحه بالدراسة هناك، فاستجاب لنصيحته.وقد تتلمذ على أيدي كبار العلماء هناك، وأغلب أساتذته كانوا من تلامذة الشيخ حسن حضرت، مما سهل عليه السير على مناهجهم.
خطوته المؤثرة إلى ميدان التعليم والتدريس
تعرّف الشيخ على أساليب التعليم ومناهجه منذ أن كان طالبًا. فبينما كان يدرس في "الرحمانية"، فوّضه أستاذه بالتدريس في غيابه، فقبل المهمة، وطلب من والده إملاء جزء من كتاب ليقدّمه للطلاب. وبعد مدة وجيزة، عُيِّن مدرّسًا في المدرسة، وأمينًا لشؤون نطاق "مادايي" الذي تقع فيه المدرسة، فنجح في تدريس كتب مهمة مثل "ألفية ابن مالك"، و"فتح المعين" وغيرها.وعند عودته من ديوبند بعد تخرّجه بدرجة فائقة وشهادة تبرز حسن مسيرته وسلوكه، استقبله أهل تريكاريبور بحفاوة، وأصرّوا عليه أن يُقيم بينهم. فمكث في المنطقة، وتولّى رئاسة شؤونها لأكثر من أربعين عامًا، أدارها بدقة حتى وافاه الأجل.
خصّص الشيخ نصيبًا كبيرًا من عمره للأنشطة الجادّة والتخطيط الواعي لتعزيز العمل بالإسلام في ولاية كيرالا. وتحمّل مهامّ تنظيمية متعددة، وترأّس عددًا من المعاهد الإسلامية. كما كان عضوًا في مركز الشورى لجمعية العلماء "سمستا" على مستوى الولاية، وكان يحتل فيها مكانة لا نظير لها، لما امتلك من رجاحة عقل وبعد نظر، ودقّة في معالجة القضايا الدينية المثيرة للجدل.شخصيته كانت صورة طبق الأصل من والده، يترصّد أعماله ويتبع خُطاه. وقد قال أخوه في إحدى المحاضرات: "إن ما جعله ما أصبح هو قطعًا قدوته بأبيه". وكان من عادة والده أن يرقيَ الماء برقية تزيل الشرور، وتُشفى بها الأمراض، وتتحقّق بها الآمال، وكان المحتاجون ينتظرونها بشغف. ويا للعجب، كم من آلام خفّت، وأمراض شُفيت، وأحلام أزهرت من هذه الثروة الروحية العظيمة.
الشيخ والابتلاء في أواخر العمر
رغم أن شيخنا كان عالمًا تقيًّا، متواضعًا، مقرّبًا إلى الله، مفنيًا عمره في خدمة الدين، إلا أنه ابتُلي في أواخر عمره بمرض شديد وألم متضايق. وهنا يحقّ التساؤل: لماذا يتعرّض شيخنا لابتلاء كهذا بعد حياةٍ زاخرة بالطاعة والعطاء؟
القرآن يجيب بوضوح، ليُسكت كلّ شك، ويُضيء درب الفهم:
"وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰۤأَسَفَىٰ عَلَىٰ یُوسُفَۖ وَٱبۡیَضَّتۡ عَیۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِیمٌ"(سورة يوسف، الآية 84)
فهكذا يُبتلى الأخيار، لا عقوبةً بل رفعًا للدرجات، وتمامًا للصفاء، وتثبيتًا للمكانة العالية في الآخرة.وهكذا، طُويت صفحة من صفحات المجد والعلم، برحيل الشيخ مانيور أحمد مولوي – رحمه الله رحمة واسعة – بعد أن سطّر بأحرف من نور سيرةً عطرة جمعت بين التقوى والعلم، والتواضع والقيادة، والمروءة والرحمة. كان منارةً تهتدي بها القلوب، وسراجًا لا يخبو نوره.
لقد خلّف تراثًا لا يُقاس بالحبر والورق، بل بالأرواح التي أنارت بنوره، والقلوب التي شربت من معين حكمته، والمؤسسات التي تشهد له بالعطاء.لم يكن مجرد عالم، بل كان مدرسةً تمشي على الأرض، وملاذًا للضعفاء، ومرجعًا في الأزمات، وبصمة لمّاعة للتضرّع والابتهال، كما سمّيناه في عنوان هذه المقالة.
محمد شبيل
طالب كلية بستان العلوم العربية ،مانيور
