الموريسكيون: قصة سقوط حضارة وصمود عقيدة

 




لقد شاهد العالم أحداثا دامية وواقعات شتى حامية منها ما تقشعّر به القلوب، ومنها ما تزهق منه النفوس، فإنّ أصداء التاريخ الاسلامي لا زالت تحمل في طياتها ذكريات ازدهارها وارتفاعها وتدهورها وانخفاضها ومنها ما لا تندمل جراحاتها حتى في الآونة الحالية، فقد قيل: إنه في طيات المحن تكمن المنح، ومنها ما أبقى عزا وافتخارا، ومنها ما أورثت ذلا واستحقارا. أحداث دامية ومضطربة، وهذه هي التي وقعت في الأندلس حتى تراجعت الملوك وتدهورت ثقافتها وانخفضت قواها.


قناديل انطفأت في ليل الأندلس

ومن أهم الواقعات السلبية في التاريخ الاسلامي انكماش دولة المسلمة في الأندلس حيث كانت شبه جزيرة أيبيريا تحت ملوك المسلمين إمارتها وحكومتها، وكان المسلمون آنذاك الأغلبية الساحقة بحيث يبلغ عدد سكانها أكثر من خمس ملايين من الناس وبنوا حضارة مبتكرة على مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي، حتى صارت الأندلس بلدة لملتقى الحضارات المتنوعة ورسخوا فيها العلوم البارزة والفنون اللامعة وقاموا بأمور تنموية ومزدهرة ومتطورة ببناء الشوارع والطرق والمستشفيات وبإنارة الشوارع بالمصابيح وإضاءتها في غياهب الدجى، ورفعوا رتبة الثقافات ودرجتها الى أقصى الغايات وقمة المجد والعلا، حتى صارت مثلا يقتدى به في جميع المجالات والنشاطات وإن كانت السلطة تحت قيادة المسلمين وقد عاش هنالك اليهود والنصارى وغيرهم بالتسامح الكامل والشامل.


الأندلس في مرآة التاريخ: صعود وسقوط

 فإن دولة الأندلس المسلمة كانت مركز انسجام الثقافات الأوروبية والإفريقية ومع ذلك كله لم يمكن لهذه المدينة الفاضلة أن يتثبتوا ويستمروا في ملكهم كثيرا بعد ذلك، وقد هجمت عليها من ملوك الكاثولية وهيمن عليهم باستيلاء وفتوحات من جديد. وبهذه الغزوات قد انخفضت وحطت الامة المسلمة آنذاك إلى حد ما، حتى واجهت الإفناء الجماعي للشعب بسبب التدمير والتخريب في الغرناطة وأيضا من أهم الاسباب لحقيقة إبادة جماعية في الأندلس.

ولم يتعرض المسلمون لهذه الحقيقة بانهيار الغرناطة في ١٤٩٢، لأنهم كانوا قد أحسنوا ظنهم بأن جيشا من إفريقيا سيقوم بفتحها وانتصارها حتى انتظروا ورغبوا فيها أشد الرغبة لتأسيس ثقافتها من جديد، ففي نفس الآونة، الملوك المستبدة في الأندلس الجدد، فرديناند وإيزابيلا، كانت لديهم خطط أخرى. أوضحوا نواياهم الدينية مبكرًا وغيرهم ارادوا لاغتراب المسلمين من الأندلس وبدأوا بنشر دينهم واتفقوا على قيام فعالياتهم حتى في مارس ١٤٩٢، قاموا بتوقيع قرار يلزم الخروج لليهود من الأندلس حيث أجبرت آلاف من اليهود يين الاغتراب من هذه البلدة وبعضهم صاروا ضيوفا للامبراطورية العثمانية وقد قام السلطان با يزيد الثاني بإرسال جميع جنوده الى الأندلس لنفي الانهيار المصاب لليهود وغيرهم وكذلك كان شأن النصارى مع المسلمين فكان عدد سكان المسلمين في الأندلس سنة ١٤٩٢ أكثر من خمسمائة آلاف، وقد همت فئات المبشرين بها للعودة الى دينهم بالاكراه والجبر وفي اول الامر غيّروا دينهم بإعطاء المال والأرض وغيرهما ولم تعش هذه الحالة أكثر بعد بل اهتدوا بدين الاسلام من جديد بنفس المقابلات.


إرث الأندلس المفقود: من الفتح إلى الطرد

ولما تبين ان المسلمين في الأندلس اواخر ١٤٠٠ بأنهم يتقنون على عقائدهم أعني عقائد الاسلام والشريعة والملة الإسلام فوق رغباتهم المالية والاقتصادية، لقد اتخذ حكام الأندلس نهجا جديدا بسياسة جديدة في عام ١٤٩٩، أُرسل فرانسيسكو خيمينيز دي سيسيرنوس ( Francisco Jimenez de Cisernos)، أحد كاردينالات الكنيسة الكاثوليكية، إلى جنوب الأندلس لتسريع عملية اعتناق الإسلام. وكان نهجه مضايقة المسلمين حتى اعتنقوا الإسلام. وأُحرقت جميع المخطوطات المكتوبة بالعربية باستثناء المخطوطات الطبية للقيام بشؤون الدينية والتغيير الديني، وأسكن الذين خلفوا من من هذا الأمر إلى السجون معاملة معهم بسلوك وحشي وقساوة ونهب أموالهم وأراضيهم وهذه كلها من سياسات سيسيرنوس حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي أن يسكن هنا الا النصرانيون والمسيحيون، لان المسلمين قد فتحوا بابا الى التمرد ضد هؤلاء وفي أمامهم المسلمون من الغرناطة حيث قاموا باحتياجاتهم في الشوارع وتظاهروا بالاعتراضات على الملوك المسيحيين وبهذه أرادوا نزعة من السلطة والحكوم وتأسيس دولة مسلمة من جديد فكان من الملوك من خافوا على هذا حتى أرادوا لاعانة سيسيرنوس وحتى أن جميع المواطنين عزموا على التفنيد ضد المسلمين وقالوا لهم بشكل مخيف، خُيِّر ثوار غرناطة بين اعتناق الإسلام أو الموت، واختار معظم سكان غرناطة اعتناق الإسلام ظاهريًا، لكنهم احتفظوا سرًا بالإسلام دينهم الحقيقي.

وانفجرت الاعتراضات والاحتجاجات في شوارع الغرناطة وفي طرقها، والتجأ كثير من المسلمين في جنوب الأندلس، وبالتحقيق صعدوا جبال Alpujarras )، ولما اشتدت دفاعات المسيحين، صار المسلمون كالذين ركبوا متن عمياء، وكالذين خبطوا خبط عشواء، ولم يكن لدى المتمردين خطة واضحة ولا قائد يقودهم إلى الصلاح ولا سائد يسودهم إلى الفلاح، ومع ذلك كله اتحدوا موقفا دفاعيا حولها وانفردوا كل الانفراد وقاموا كالمعتضدين والمتحدين في إيمانهم بالإسلام ومقاومتهم للسلطة المسيحية وهيمنتها أشد الدفاع وأكمل المواجهة وأعظم المقاومة.

وكان معظم سكان غرناطة مسلمين، ولذلك اتخذ التمرد طبعا دفاعيا، وحمى وطيسها وهاجم الجنود المسيحيون المدن المسلمة بانتظام في محاولة لإجبار سكانها على اعتناق الإسلام، ولم يتمكن المتمردون المسلمون، الذين ليس لهم إلمام ولا معرفة ولا تدريب عن الدفاع والمقاومة وشهدوا الهجمات في معظم الأحيان، وانتشر إجبارهم على اعتناق الإسلام من جديد.


الدمعة الأخيرة في عيون غرناطة

وخمد وطيس الحروب والتمرد بعام ١٥٠٢، وأعلنت الملكة إيزابيلا رسميا نهاية التسامح مع جميع المسلمين في الأندلس، وهكذا، حق على جميع المسلمين أن يعتنقوا المسيحية رسميا، أو يغادروا الأندلس، أو يموتوا بها، وفي الواقع فرّ الكثيرون إلى شمال إفريقيا أو قاتلوا حتى الموت، ومع ذلك اعتنق معظمهم المسيحية ظاهرا، مع الحفظ على سرية معتقداتهم الحقيقية للإسلام.

واختبأ مسلمو الأندلس عام ١٥٠٢. واضطروا إلى إخفاء دينهم وفعالياتهم عن السلطات الأندلس لترك القتل، بحيث عُرف هؤلاء المسلمون "المتحوّلون" باسم الموريسكيين لدى الإسبان، وكانوا تحت مراقبة شديدة. وأنفذ مسؤولو الحكومة الأندلس قيودًا صارمة على الموريسكيين في محاولة لعدم استمرارهم في ممارسة الإسلام سرا، واضطر الموريسكيون إلى ترك أبواب منازلهم مفتوحة مساء الخميس وصباح الجمعة، حتى يتمكن الجنود من المرور والتحقق من عدم اغتسالهم، الذي هو فرض أن يفعل المسلمون قبل صلاة الجمعة، وعرض المسلم يُقبض عليه ويقتل فورا حين يقرأ القرآن أو يتوضأ، ولحل هذه المشاكل، واضطروا إلى البحث عن طرق ممارسة شؤونهم الدينية سرا، من أجل خوف على أن يُكتشف أمرهم، حتى في ظل هذه الظروف الصعبة، احتفظ الموريسكيون بمعتقداتهم بشكل جيد، وكانت العبادات الإسلامية الجهرية المجتمعية، مثل صلاة الجماعة، وإيتاء الزكاة، والحج إلى مكة، كلها محظورة ومرفوضة، ولكنهم حاولواعلى مواصلة ممارستها سرا.

الموريسكيون: شعب بلا وطن وذاكرة بلا حدود

على الرغم من جهود الموريسكيين الحثيثة لإخفاء ممارستهم للإسلام، إلا أن الملوك المسيحيين شكّوا في استمرارهم فيه، وفي عام ١٦٠٩، بعد مائة عام من اختباء المسلمين، وقّع الملك فيليب ملك الأندلس مرسوما بطرد جميع الموريسكيين من الأندلس، ومُنحوا مهلة ثلاثة أيام فقط لحزم أمتعتهم بالكامل وركوب السفن المتجهة إلى شمال إفريقيا أو الدولة العثمانية، وخلال هذه الفترة، تعرضوا لاضطهادات مختلفة ومضايقات مستمرة من المسيحيين، الذين كانوا ينهبون ممتلكاتهم ويختطفون أطفال المسلمين لتربيتهم على دينهم، حتى أن بعض الموريسكيين قُتلوا عبثا بلا سبب في طريقهم إلى الساحل على يد الجنود والناس العاديين. وحتى عند وصولهم إلى السفن التي ستنقلهم إلى أراضيهم الجديدة هكذا تعرضوا للمضايقات والشدائد والمصائب.

لقد كان من المُهين حقًا أن يُجبروا على دفع أجرة منفاهم، وكأنهم يشترون تذكرة إلى الجحيم. لقد اغتُصب الموريسكيون، وسُرقت أمتعتهم، وقُتلوا كما تُداس الزهور في طريق الجبابرة يلتهم بلا رحمة، إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من جراح، إذ كشفت الحكومة الإسبانية عن وجهها القبيح دون خجل، مصمّمة على أن تجعل من رحيل المسلمين معاناة تشبه المسايرة حفاةً فوق الجمر. ومع ذلك، استطاع الموريسكيون في هذه الأجواء المظلمة أن يتنفسوا إسلامهم من جديد. فبعد أكثر من قرن من الكتمان، . ورُفعت أصداء الأذان في جبال الأندلس وسهولها ولمع الإسلام في عامرها وغامرها ، وعلى الرغم من أنهم كانوا في طريقهم إلى مغادرة وطنهم، فقد كانت قلوبهم مشدودة إلى الأندلس، ذلك الوطن الذي لم يعرفوا غيره، ولم يتخيلوا حياةً خارجة.

وقد حاول كثير منهم العودة سرًا، لكن معظم المحاولات باءت بالفشل، وبدت الأندلس كمدينة مغلقة الأبواب، لا ترحب بمن كان منها. وبحلول الستينات، اختفى آخر موريسكي، كما تنطفئ آخر شمعة في ممر مظلم، ومعه اختفى الإسلام من شبه الجزيرة الأيبيرية، وانتهى بهذه فصل من تاريخها لا يمكن وصفه، وفي شمال إفريقيا، فتح الحكام المسلمون قلوبهم قبل حدودهم، محاولين تخفيف جراح اللاجئين، لكن الموارد المحدودة كانت كالأكف الفارغة أمام سيلٍ جارف. ومع ذلك، لم يذب الموريسكيون، بل حافظوا على هويتهم الأندلسية تزيّن ذاكرتهم، ولا تزال أحياء المدن الكبرى في شمال إفريقيا، حتى يومنا هذا، تتغنى بأصالتها الموريسكية، تلك الأحياء ليست مجرد منازل، بل شواهد حيّة على المجد الذي كان، وعلى الطرد الذي لا يزال يُعتبر من أعظم الإبادات الجماعية في تاريخ أوروبا.


محمد نبيل عبد الحكيم                     

باحث في قسم الحديث وعلومه           

 




إرسال تعليق

أحدث أقدم