إنّ من أخطر ما أصاب الأمة المحمدية في هذا العصر هو مرضان متلازمان إذا اجتمعا هلك القلب، ووهنت الأمة، وهما: داء الغفلة وداء حب الدنيا. فالغفلة تُميت الإحساس بالآخرة، وحب الدنيا يُولِّد الطمع والأنانية، وإذا فسد القلب بهذين الداءين، تعطّلت حركة الإصلاح، وذابت روح العمل، وفقد المسلم رسالته ووجهته.
الغفلة.. موت القلوب في الحياة
الغفلة ليست مجرد نسيان مؤقت، بل مرضٌ عميق يتسلّل إلى القلب حتى يطمس نوره. وقد وصفها العلماء بأنها “نوم القلب عن الحق”، فإذا غفل الإنسان عن ربه، خمدت فيه حرارة الإيمان، وصار حياً بجسده ميتاً بروحه. قال الله تعالى: "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون" (الأنبياء: 1) كم من مسلمٍ اليوم يعلم تعاليم دينه، لكنه يعيش في غفلةٍ عنها! يسهر الليالي في لهوٍ فارغٍ، وينام عن صلاة الفجر، وقد قال النبي ﷺ فيمن نام حتى أصبح: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه». فإذا بدأ يومه ببول الشيطان، فكيف يُرجى منه أن يكون يوماً مباركاً طيباً؟
لقد حثّنا الإسلام على أن نبدأ يومنا باليقظة والذكر، فقال ﷺ عند الاستيقاظ: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور». فالشكر لله هو أول علاجٍ للغفلة، لأنه يربط القلب بالمنعم سبحانه، ويجعله يرى كل لحظة من حياته فرصةً للطاعة والعبادة. قال تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: 7)والغفلة عن الله لا تقف عند حدود العبادة فقط، بل تمتد إلى شؤون الحياة كلها؛ في العمل، والعلاقات، والوقت، والنية. فيتحول الدين إلى عادةٍ جامدة، لا روح فيها ولا أثر. وهنا تبدأ الأمة بالتراجع والانحدار، لأنّ الإيمان الذي لا يتحرك في السلوك سرعان ما يذبل في القلوب.
حب الدنيا..
أصل كل خطيئة
وإذا كانت الغفلة تُميت القلب، فإنّ حب الدنيا يُفسده. قال النبي ﷺ: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" (صحيح البخاري) لقد أصبح ما حذّر منه النبي ﷺ واقعاً نعيشه اليوم؛ ترى الناس يتنافسون في زخارف الدنيا: في المال والمظاهر والمناصب، حتى صار النجاح يُقاس بما يملك المرء، لا بما يُقدّم من خير. ولقد صدق النبي ﷺ حين قال: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»، لأنّ من تعلّق قلبه بها ضاع في دوّامة الطمع، لا يرضى بالقليل، ولا يشكر الكثير، ويبيع دينه بثمنٍ بخسٍ من متاعٍ زائل.وما أعجب حال الدنيا! تراها تخدع الناظرين ببريقها، فإذا اقتربوا منها انكشفت حقيقتها. قال ﷺ: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء" (الترمذي). فالذي يبيع آخرته من أجل دنيا لا تساوي جناح بعوضة هو المغبون الأكبر. ولذلك قال الله تعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ" (البقرة: 16)
العلاقة بين
الغفلة وحب الدنيا
الغفلة وحب الدنيا توأمان لا يفترقان؛ فالغافل عن الآخرة لا بدّ أن يتعلق بالدنيا، والمتشبث بالدنيا لا بدّ أن يغفل عن الآخرة. وإذا استولت المادّة على القلوب، أصبح الإنسان عبدًا لها، كما قال النبي ﷺ: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط" (البخاري) ومن آثار هذا المرض أن تتحول الأمة إلى جسدٍ بلا روح، كثير العدد قليل الأثر. وقد وصف النبي ﷺ هذا الحال فقال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها…» قيل: «أمن قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟» قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن». قيل: «وما الوهن؟» قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (أبو داود) هذه الصورة النبوية العجيبة تلخص واقعنا بدقة؛ كثرة في العدد، لكن ضعف في التأثير، لأنّ القلوب تملؤها الغفلة، والنفوس تقيّدها شهوة الدنيا. وما لم تُبدّل الأمة حب الدنيا بحب الله، ستبقى في دائرة الضعف والهوان.
النموذج النبوي
في الزهد واليقظة
لقد قدّم النبي ﷺ للبشرية نموذجًا عمليًا في التوازن بين العمل للدنيا والاستعداد للآخرة. عاش بسيطًا زاهدًا، لا يملك إلا قوت يومه، لكنه كان أقوى الناس قلبًا وأغزرهم عملاً. تقول عائشة رضي الله عنها: «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ﷺ»، ومع ذلك كان أكرم الناس يداً، يبذل ما عنده في سبيل الله.وحين ذُكر له شيء من الذهب لم يُقسّم بعد، أسرع إلى بيته ليخرجه، وقال: «كرهت أن يحبسني». هذا هو الزهد النبوي؛ زهد في الحرام والمكروه، وزهد في التعلّق لا في التملك، لأنّ يده كانت تملك الدنيا، لكن قلبه لم يكن يملكه شيء سوى الله.
سبل الشفاء من
هذين الداءين
السبيل إلى
الشفاء يبدأ من الوعي القلبي، أن نراجع أنفسنا بصدق، وأن نُعيد ترتيب أولوياتنا.
فالدنيا مطيّة وليست غاية، واليقظة الإيمانية هي التي تجعل المسلم يعيش دنياه وهو
يرى في كل عملٍ طريقاً إلى الله.
من وسائل
العلاج كذلك:
1.
الإكثار من الذكر، فهو يطرد الغفلة، ويعيد للقلب
صفاءه.
2.
ملازمة الشكر، فهو يحفظ النعمة ويجدد الصلة
بالمنعم.
3.
الزهد الواعي، وهو ترك ما لا ينفع لا ما لا يُملك.
4.
تجديد النية في كل عمل، لتتحول أعمالنا الدنيوية
إلى عباداتٍ مقبولة.
5. صحبة الصالحين، فهم مرآةٌ تذكّر بالله وتعين على الثبات.
الغفلة وحب الدنيا داءان خطيران، لا يُعالج أحدهما إلا بالآخر؛ فاليقظة هي دواء الغفلة، والزهد دواء حب الدنيا. وإذا أرادت الأمة أن تعود إلى مجدها، فعليها أن تبدأ من قلبها؛ من تصحيح العلاقة مع الله، وإحياء الضمير، واستبدال التنافس على الدنيا بالتسابق إلى الآخرة.فلنستيقظ من غفلتنا قبل أن يُقال فينا: «اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون». ولنجعل من يقظتنا مشروعًا فرديًا وجماعيًا لإحياء الأمة، حتى نعود كما أرادنا الله: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110)
محمد مصعب
باحث جامعة دار
الهدى الإسلامية
