وسائل التواصل الاجتماعي: متاهة الزلات


عصر تسارعت فيه العجلة الرقمية وازدادت فيه التقنيات وتراكمت فيه المعارف كالسحب المثقلة  والمغامرة بالمطر، تمر على نسماتها الأشعة الإلكترونية، وعُزت أصوات العصافير وازدحامها، وازدهرت العولمة "Globalization" حتى الهند ينبهر أفكارها بأجواء أمريكا، وأوربا بالصين حتى  بزغ نجم وسائل التواصل الاجتماعي كواحدةٍ من أعظم اختراعات هذا القرن، إذ لم تعد الحياة تكتمل دون ضغطة زرّ على شاشةٍ مضيئة تُوصلنا إلى من نحب، أو تُنقلنا إلى عالم لا تحدّه خرائط ولا تحكمه جغرافيا. إنّ أولى بذور هذه الثورة التقنية زُرعت في أواخر تسعينيات القرن العشرين، عندما وُلد موقع "SixDegrees.com" عام 1997م، ليُعدّ من أوائل المنصات التي مهّدت طريق التواصل الشبكي. ولم تمضِ سوى سنوات قليلة حتى ظهر "Friendster" عام 2002م، تبعته منصات أخرى كـ"MySpace" عام 2003م، ثم انفجر الفضاء الرقمي بدخول "Facebook" إلى الساحة عام 2004م، على يد الطالب الطموح مارك زوكربيرغ وزملائه في جامعة هارفارد، ليُصبح خلال عقد من الزمن أشبه بقريةٍ كونية يلتقي فيها أكثر من مليار نفس بشرية.

ثم توالت الابتكارات، وظهر "Twitter" عام 2006م، الذي أسسه جاك دورسي، وأضاف للعالم بُعدًا جديدًا للعولمة في سرعة النشر وتبادل الأخبار. وازداد المشهد تنوعًا مع انطلاق "WhatsApp" عام 2009م من عقلَي جان كوم وبراين أكتون، ليُحدث ثورة في الاتصالات الفورية التي أغنت عن الرسائل النصية والمكالمات التقليدية حتى الأمريكيون يصيلون بالهنود والآخر بالآخر. ولم تكن الصورة لتكتمل دون منصة "Instagram"،التي وُلدت عام 2010م من خيال كيفن سيستروم ومايك كريغر، فحملت الصورة إلى عرش التعبير، وجعلت من اللحظة الفانية مادةً للخلود.

لكن كما أن النارَ تُضيء وتُحرق، فإن وسائل التواصل الاجتماعي كانت – ولا تزال – سيفًا ذا حدّين، فقد حملت في طيّاتها منافع جليلة، وأخطارًا جسيمة بهيمة التي تصيد الناس في قبضتها، جعلتها كالمحيط المترامي، يحمل في قاعة لآلئ العلم، وأسماك القرش معًا. فمن أعظم محاسنها ما أتاحته من تعزيز التواصل الإنساني بين الأقارب والأصدقاء في شتّى بقاع الأرض، وكأن العالم صار في كفّ اليد وعروقه، لا يحجبه جبلٌ ولا شجر ولا يفصل بين أطرافه محيط. كما أصبحت منبرًا لنشر المعرفة، ومنصة للتعبير عن الرأي الحرّ، ومدرسة لتبادل الأفكار والابتكار. وقد ساعدت الشركات والمؤسسات التجارية على الوصول إلى جمهورها، وعززت مكانة الفرد في عرض أفكاره وإبداعاته الباهظة، بل أخرجت ملايين المغمورين إلى دائرة الضوء.

إلا أنّ هذه الوسائل نفسها انقلبت – في كثير من الأحيان – إلى متاهة زلّات، ضلّت فيها النفوس والأفئدة، وانتهكت فيها الخصوصيات "privatization"، وانتشرت فيها الشائعات كالنار في الهشيم. فكم من سمعة دُمّرت وهلكت، وكم من فكرة شوهت، وكم من عقول غُرّرت بها بسبب الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة العاتية الفاضحة. ثم إنّ الإدمان عليها بات داء العصر؛ يُلهي النفوس، ويخدّر الوعي، ويقود البعض إلى العزلة والانكفاء، رغم ما يبدو من كثافة التفاعل والتعليقات. ومن الآفات الخطيرة التي تسللت عبر هذه المنصات: التنمّر الإلكتروني، الذي يفتك بضحاياه بصمت والسكوت، وأودى بشباب وشابات إلى هاوية اليأس. كما أصبحت هذه الوسائل مجالًا خِصْبًا مضللا  للتجسس الرقمي وسرقة البيانات، في ظل غياب وعي قانوني كافٍ لدى كثير من المستخدمين. وقد حذّر العديد من المفكرين والمخترعين من مخاطر هذه الوسائل رغم أنهم ساهموا في إنشائها؛ فها هو كيفن سيستروم، أحد مؤسسي "Instagram"،يعترف لاحقًا بأن المنصة قد تُغذّي القلق والوهم النفسي والشعور والأفكار بالنقص عند المستخدمين. وكذلك أبدى شون باركر، أول رئيس لشركة "Facebook"،أسفه على ما وصفه بـ"الاستغلال الواعي لثغرات النفس البشرية"، يشير إلى أن المنصات صُممت لتجذب انتباه المستخدم وتجرب جذبته وتبقيه مدمنًا. ومن أقوال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: "وسائل الإعلام تُلهينا بالتفاهات كي لا نفكر فيما هو جادّ"، وهي كلمة تصدق على كثير من محتوى التواصل الاجتماعي المعاصر.

 وإذا نلتقط العيون إلى تأثير هذه المنصات في المجتمعات، رأينا تحوّلات هائلة خائفة جائحة، منها الإيجابي ومنها المُقلق؛ فقد ساهمت في إسقاط أنظمة، وبناء رأي عام، وتحريك الشارع، كما حدث في "الربيع العربي"، لكنها أيضًا غذّت التطرّف في بعض النواحي والأقطار، وساهمت في تعميق الاستقطاب، وجعلت من الجدال والانفعال اليومي ثقافة سائدة. كما ساعدت على تسليع الإنسان وتحويله إلى منتَج رقم يُقاس المتابعين والاعجابات، وهو ما أضرّ بالقيم الروحية والعقلية، وأضعف الحسّ النقدي والذوق الجمالي في التعبير.

إن وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر على قول: "نافذة على العالم، لكنها قد تكون بابًا إلى الفراغ"، فهي لا تُعاب في ذاتها، بل في كيفية استخدامها. وإنّ من الحكمة أن نتعامل معها على أنها وسيلة لا غاية، وأداة تحتاج إلى وعي لا إلى غفلة ولا ضلالة. فلا بدّ أن نستعيد زمام التحكم في زماننا وعصرنا الراهن، وألا ندعها تسحبنا إلى متاهة الزلات، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، ويُضيع الإنسان نفسه في متابعة غيره. ومن هذا المنطلق، فإن مستقبل الأجيال القادمة يتوقف على التربية الرقمية، وغرس قيم التوازن، وإعادة بناء وعي جماعي يُفرّق بين الحرية والفوضى، وبين التعبير والتشهير، وبين الإبداع والإلهاء.

 

مهدي أحسن

  باحث جامعة دار الهدى الإسلامية، بنغال الغربي

إرسال تعليق

أحدث أقدم