فلسطين وعيدها في زمن الإبادة



العيد، في جوهره، لحظةُ بهجةٍ وطمأنينة، يحمل بين طيّاته معاني العفو والتكافل، ويُعيد للنفوس شيئًا من الطمأنينة بعد عناء الأيام. لكن، ماذا لو جاء العيد على وقع القصف؟ ماذا لو اختلط تكبيرُ العيد بصراخ الثكالى؟ ماذا لو ذُبحت الأضاحي في فلسطين ودماء الأطفال ما تزال تغسل شوارع غزة؟ لا عيد في زمن الإبادة، هكذا باتت فلسطين تهمس في ضمير الأمة، تكرّرها البيوت المهدّمة، والمساجد المحروقة، والقبور المفتوحة.


الأعياد ما مضت في مهدها 

منذ نكبة عام 1948 التي هجّرت أكثر من 700,000 فلسطيني ودمّرت أكثر من 500 قرية، بات العيد في فلسطين ذكرى ألم أكثر منه مناسبة فرح. لم تعد البيوت مكتملة لتتزين، ولا الشوارع آمنة لتشهد بهجة الأطفال. أعقبها نكسة عام 1967 حين احتُلّت الضفة الغربية وغزة، فاستمرّ الاحتلال في اجتثاث ما تبقى من الحلم الفلسطيني. وفي العقود التي تلت، زاد الطوقُ خنقًا، من اجتياح بيروت 1982 إلى الانتفاضتين، فالحصار المفروض على غزة منذ 2007، والذي بلغ أشدّه في الأعوام الأخيرة، خاصة في ظل الحروب المتكرّرة.

في عيد الأضحى لعام 2024، لم تُسمع تكبيرات العيد في غزة كما كانت تُسمع قديمًا، بل امتزجت بأصوات الانفجارات. أفادت التقارير أن 96% من الماشية و99% من الدواجن في غزة قد نفقت، بسبب الحرب والمجاعة، وهو ما جعل تقديم الأضاحي أمرًا شبه مستحيل. وقد وثّقت وكالة "أسوشيتد برس" مشاهد لأطفال في غزة، في العيد، يوزَّع عليهم التمر وبعض الحلوى البسيطة بدل لحم الأضاحي. هذا "العيد" في غزة ليس سوى مشهد كئيب يتكرر كل عام في ظل الحصار والقصف والتجويع.

وخلال عيد الفطر 2024، كانت المجازر في ذروتها. فقد قُتل أكثر من 65 فلسطينيًا، بينهم أطفال وعمال إغاثة، نتيجة القصف الإسرائيلي المكثّف على القطاع، كما ذكرت شبكة "هافنغتون بوست" الإسبانية. كثير من الفلسطينيين أدوا صلاة العيد فوق أنقاض المساجد المدمّرة، ومنها مسجد العمري الكبير، الذي يعود للقرن الخامس الميلادي، والذي دُمّر بالكامل. وقد أشارت التقارير إلى أن أكثر من 800 مسجد وثلاث كنائس قد دُمرت بالكامل في غزة منذ أكتوبر 2023، مما يعكس ليس فقط عدوانًا على الأرواح، بل على الذاكرة والتراث والهوية. 

هذا التدمير الممنهج للتراث الثقافي والديني الفلسطيني دفع منظمة اليونسكو في ديسمبر 2023 إلى إدراج دير القديس هيلاريون – وهو من أقدم الأديرة في العالم – على قائمة مواقع التراث العالمي المهددة بالخطر، كما وثّقت تقارير ويكيبيديا الدولية. وفي الوقت ذاته، قدّمت جنوب إفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل رسميًا بارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة، مستندةً إلى معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية، وبالأخص مع ارتفاع عدد الضحايا لأكثر من 33,000 فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، خلال العدوان المستمر منذ أكتوبر 2023، كما ذكرت تقارير من وكالة "إنديا تي في".

أما في الضفة الغربية، فقد ساد الحزن عيدهم أيضًا، فمع تصاعد عمليات الاقتحام والاعتقالات والقتل شبه اليومي، أُلغيت الفعاليات الاحتفالية تضامنًا مع غزة، كما أوردت وكالة "الأناضول". في رام الله، نابلس، والخليل، رفعت صور الشهداء بدل الزينة، وأقيمت الوقفات الاحتجاجية بدل الاحتفالات. وفي الشتات، نظّمت الجاليات الفلسطينية فعاليات رمزية تذكّر بأن القضية لا زالت حية، وأن العيد لن يعود عيدًا حتى تعود الأرض وتتحقق الكرامة. 

هذا الواقع المأساوي يدفعنا لإعادة تعريف العيد: هل هو محصور في لباس جديد وكعك العيد؟ أم أنه مرتبط بالحياة والكرامة؟ في فلسطين، يُختصر العيد في صلاة تحت النار، وابتسامة يتيمة، ودمعة أم على جثمان طفلها. إنه عيد من نوع مختلف، لا يشبه أعياد العالم الإسلامي التي يعلو فيها التكبير. بل تكبير غزة مخنوق تحت ركام المساجد، وصوت أطفالها يئنّ بدل أن يضحك.

لكن رغم كل ذلك، يبقى الفلسطينيون – وهم يواجهون الإبادة والتجويع والعزلة – متمسّكين بالأمل، يتوارثونه كما يتوارثون مفاتيح بيوتهم القديمة. ففي كل عيد، يرفعون أيديهم إلى السماء، يكبّرون ليس فرحًا، بل إيمانًا، ويتمنون أن يأتي العيد القادم وقد عادت الأرض، وعاد الحق، وزال الظلم. 

إننا كأمة، لا ينبغي أن نحتفل بعيدنا دون أن نحمل في قلوبنا فلسطين. لا يجوز لنا أن ننسى أن هناك عيدًا ميتًا في غزة، عيدًا ينزف من بين جدران الخيام، ومن جوع الأمهات، ومن صراخ الأطفال الذين فقدوا آباءهم. إن الوقوف مع فلسطين اليوم ليس شعورًا عاطفيًا عابرًا، بل واجبٌ أخلاقي، ديني، وإنساني، تُمليه علينا مبادئنا وقيمنا. العيد الحقيقي، هو حين تعود فلسطين حرّة، حين يصبح التكبير نداء نصر لا صدى بكاء.


وماذا عن عيد الأضحى لعام 2025؟

ومع اقتراب عيد الأضحى لعام 2025، والذي صادف يوم الجمعة السادس من يونيو في معظم الدول الإسلامية، والسبت السابع من يونيو في جنوب آسيا، لا يزال المشهد الفلسطيني يُنذر بالمزيد من الألم. في غزة، لا جديد سوى تكرار المعاناة بصور أشدّ قتامة. فالحصار ما زال مفروضًا، والمعابر مغلقة، والبيوت مهدّمة، والمستشفيات شبه عاجزة عن استقبال الجرحى، والأنباء القادمة من هناك تنذر بأن عيد 2025 سيكون امتدادًا لسلسلة الأعياد الحزينة التي عاشتها فلسطين في السنوات الأخيرة.


منظمة الأمم المتحدة حذّرت في مايو 2025 من أن الوضع الإنساني في غزة بلغ مستويات "غير قابلة للاستمرار"، حيث يفتقر أكثر من 85% من السكان إلى المياه النظيفة والغذاء الكافي. ومع انعدام فرص دخول المواشي أو إقامة شعائر الأضاحي، يُتوقّع أن يكون هذا العيد رمزًا جديدًا للحرمان. وتستمرّ آلة القصف الإسرائيلية في قصف ما تبقى من المنشآت الحيوية، حيث تمّ تدمير ما يزيد عن 70 مدرسة و25 مستشفى بشكل جزئي أو كامل منذ بداية العام، بحسب تقارير منظمة "أنقذوا الأطفال".


في الضفة الغربية، كذلك، لا أمل كبير في أجواء عيدية حقيقية؛ فسياسة الاقتحامات الليلية والاعتقالات لم تتوقف، بل تفاقمت مع تصاعد الاستيطان، كما أن الحكومة الإسرائيلية قد صادقت في إبريل 2025 على خطة جديدة لبناء 5,000 وحدة استيطانية في القدس والضفة، في تحدٍ صارخ للقانون الدولي. كل هذا يُلقي بظلاله على أجواء العيد، ويحوّل أيام البركة إلى لحظات حزن وتأمّل واستذكار للشهداء والمعتقلين.


وفي الشتات، يستعد الفلسطينيون أيضًا لهذا العيد بمزيج من الحزن والتضامن. فقد أعلنت عدة منظمات إنسانية مثل "أنروا" و"هيومن رايتس ووتش" حملات لجمع التبرعات وتوفير بعض مستلزمات العيد لأطفال غزة، لكن الجميع يدرك أن الأعياد في أرض الإبادة لا تحتاج إلى صدقات، بل إلى عدالة. العدالة التي طال انتظارها، والحق الذي لا يسقط بالتقادم، مهما طال الظلم وامتدّ.


وبالختام، إن فلسطين وعيدها مميتة، وإن مرّ على الأمة الإسلامية كبقية الأعياد، فإنه في فلسطين يظلّ محفوفًا بالدم، ومكللًا بالصبر، ومعلّقًا بأمل بعيد. عيد بلا ضحك، بلا ألعاب نارية، بلا أهازيج وزيارات، لكنه يظل عيدًا لأن الفلسطينيين يصنعون منه مناسبةً للصمود والثبات، لا للاستسلام والانكسار.


مهدي أحسن

جامعة دار الهدى الإسلامية

إرسال تعليق

أحدث أقدم